امتحان الثقة بين القوى السياسية


أثارت وثيقة سميت "بمبادرة المواطنة" جدلا واسعا في الساحة السياسية التونسية طيلة الأسبوع المنقضي. وكان رئيس "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي"، عياض بن عاشور، قد أعلن مباشرة إثر تصويت الهيئة العليا على مشروع مرسوم القانون الانتخابي المؤقت عن شروع الهيئة في مناقشة هذه الوثيقة قصد جعلها تعهدا ملزما للمجلس التأسيسي القادم ولكل من سيتقدم إلى انتخاباته في يوليو/تموز القادم.

وفي أول حصة نقاش حول هذه المبادرة، التي وقعت صياغتها خارج الهيئة، أثار بعض الأعضاء، خاصة من حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، بعض الإشكالات المتعلقة بمدى قانونية إلزام المجلس التأسيسي بمضمون أية وثيقة تصوت عليها هيئة غير منتخبة. ورغم المرونة التي أبدتها حركة النهضة التي ساندت فكرة تحويل "المبادرة" إلى "عقد جمهوري" أو "عهد ديمقراطي" تكون له صبغة أخلاقية وغير إلزامية، فإن ممثلي حزب المؤتمر من أجل الجمهورية تمسكوا بموقفهم السابق معتبرين الهيئة غير مخولة أصلا فرض أية التزامات تحد من حرية المجلس التأسيسي المقبل.

ويرى عدد من المتابعين أن وثيقة "المبادرة" التي أعدتها أطراف علمانية مستغلة عدم توازن تركيبة الهيئة العليا من أجل دفعها إلى مناقشتها وتبنيها، إنما هي مظهر من مظاهر الصراع بين الإسلاميين والعروبيين من جهة، والعلمانيين من جهة أخرى. تعبر الوثيقة عن تخوفات العلمانيين من أي اكتساح تقوم به حركة النهضة للمجلس التأسيسي وإمكانية استغلالها ذلك من أجل فرض إجراءات أو قوانين، وربما دستور، يتراجع عن كثير من مكتسبات "التحديث" في البلاد.

لذلك فإن ما يبدو من حرص على بعض المضامين كما جاءت في هذه الوثيقة إنما يعبر أيضا عن موقف سياسي بامتياز من السجال السياسي الدائر حاليا في تونس. ورغم التزام نص المبادرة بالفصل الأول من الدستور الذي ينص على أن "تونس دولة مستقلة ذات سيادة لغتها العربية ودينها الإسلام"، إلا أن نقاطا أخرى، بتأكيدها على المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، تفهم على أساس أنها تدفع إلى مراجعة قانون الإرث المستند إلى الشريعة الإسلامية، وهو ما يرفضه عادة الإسلاميون.

وكانت حركة النهضة قد أمضت منذ سنوات عديدة على ما سمي آنذاك "بوثيقة 18 أكتوبر" التي تعترف بكل مكاسب الحداثة وتدعو إلى تطويرها، وذلك إلى جانب كل من الحزب الديمقراطي التقدمي وحزب العمال الشيوعي التونسي. ورغم حالة التجيييش التي شهدتها الساحة العلمانية ضد حركة النهضة بسبب رفضها الطابع الإلزامي للوثيقة المقترحة، فإن الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة قد أقرت بضرورة أن تكون الوثيقة المعنية بالعقد الجمهوري أو العهد الديمقراطي ناتجة عن مشاورات بين جميع الحساسيات في البلاد، إضافة إلى طابعها الأخلاقي وغير الإلزامي.

وإذا ما استطاعت اللجنة التي شكلت من 16 عضوا تحرير هذه الوثيقة، فإن الهيئة ستكون قد تجاوزت نقطة خلاف كبيرة بين التيارين الإسلامي والعلماني.

في خضم ذلك، سيطر جدل آخر على الساحة بفعل التحفظات التي أبداها رئيس الحكومة المؤقت حول مشروع القانون الانتخابي المؤقت وخاصة فصله الخامس عشر (منع رموز النظام السابق من الترشح) والفصل السادس عشر (مسألة المناصفة في القائمات الانتخابية)، فإن تبريره لتلك التحفظات بالتخوف من سيطرة الإسلاميين على المشهد السياسي المقبل ألقى ظلالا من الشك على التزامه الحياد إزاء الصراع السياسي الدائر في البلاد، كما أثار غضبا شديدا بسبب ما فهم أنه دفاع عن رموز النظام السابق الذي كان هو نفسه جزءا منه إلى حدود مطلع التسعينات.

وقد تزامن ذلك الموقف مع محاولة للتظاهر قام بها ناشطون في الحزب الحاكم سابقا والذي وقع حله بقرار قضائي، احتجاجا على ما قيل أنه إقصاء ظالم لهم من المشاركة في صياغة مستقبل البلاد. ومع تظاهر رجال الأمن أيضا ومطالبتهم بالحماية مما قالوا أنه حملة تشويه لهم بسبب اتهامهم بإطلاق النار بهدف القتل أثناء أحداث الثورة، بلغ الاحتقان درجة أعلى وعادت الاعتصام والمظاهرات في بعض المناطق، بل إن متظاهرين في سيدي بوزيد، المنطقة التي انطلقت منها شرارة الثورة في منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول، قاموا يوم الثلاثاء 19 أبريل/نيسان بطرد وزير الداخلية الجديد الذي حل بالمدينة، مستنكرين أن يكون هو أول أعضاء الحكومة المؤقتة الذي يزور منطقتهم. يؤدي ذلك إلى القول أن الحكومة المؤقتة تمر بإحدى أصعب فتراتها في ضوء تراجع واضح لشعبية رئيسها السيد الباجي قايد السبسي وميله إلى الخروج الحياد تجاه أطراف العملية السياسية.

من هنا يرى بعض الملاحظين أن بث القناة الرسمية شريطا وثائقيا حول فساد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي إنما يأتي في سياق محاولة تنفيس الحكومة الضغط الواقع عليها وإشغال الرأي العام بقضية أصبحت في ذمة التاريخ، إضافة إلى محاولة أطراف إلصاق كل مآسي البلاد بشخص واحد استباقا لأية محاولات لمحاسبتها على أساس اتهامات بالمشاركة في الفساد والقتل. وكل ما سبق يطرح مسالة الثقة بين مختلف القوى، وثقتها في حكم الانتخابات.
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات

comment 0 commentaires:

 
© LIFE NEWS | Design by Blog template in collaboration with Concert Tickets, and Menopause symptoms
Powered by Blogger